فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الثانية: فهي تكون لأشياء أما لأن النفس إذا أحست في حال اليقظة بتوسط الآلات الجسمانية بصور جزئية محسوسة أو خيالية وبقيت مخزونة في قوة الخيال فعند النوم الذي يخلص فيه الحس المشترك عما يرد عليه من الحواس الظاهرة ترسم في الحس المشترك ارتسام المحسوسات إما على ما كانت عليها وإما بصور مناسبة لها، أو لأن النفس أتقنت بواسطة المتخيلة صورة ألفتها فعند النوم تتمثل في الحس المشترك، أو لأن مزاج الدماغ يتغير فيتغير مزاج الروح الحاملة للقوة المتخيلة فتتغير أفعال المتخيلة بحسب تلك التغيرات، ولذلك يرى الدموي الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض، ومن هذا القبيل رؤية كون بدنه أو بعض أعضائه في الثلج أو الماء أو النار عند غلبة السخونة أو البرودة عليه، ورؤية أنه يأكل أو يشرب أو يبول عند عروض الاحتياج إلى أحدها.
ومن العجائب في هذا الباب أنه إذا غلب المني واحتاجت الطبيعة إلى دفعه تحتال باستعانة القوة المتخيلة إلى تصوير ما يندفع به من الصور السحنة وفي إرسال الريح الناشرة لآلة الجماع وإرادة حركاتها حتى يندفع بذلك ما أرادت اندفاعه، وقد يكون ذلك التوجه والاعتياد لا لغلبة المني فلهذا قد لا يندفع به شيء، وقد يعرض للروح اضطراب وتحريك من الأسباب الخارجة والداخلة فترى أمورًا متغيرة متفرقة غير منضبطة فربما يتركب من المجموع صورة غير معهودة قلما يتصورها أحد أو يقع مثلها في الخارج، وقد يكون ذلك لاتصالات فلكية وأوضاع سماوية، فإذا كانت الرؤيا لأحد هذه الأمور تسمى أضغاث أحلام ولا تعبير لها ولا تقع.
وقد ذكروا أن أصدق الناس رؤيا أعدلهم مزاجاف ومن كان مع ذلك منقطعًا عن العلائق الشاغلة والخيالات الفاسدة معتادًا للصدق متوجهًا إلى الرؤيا واستثباتها وكيفيتها كانت رؤياه أصح وأصدق وأكثر أحلام الكذاب والسكران والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر أو خيالات فاسدة ومقتضيات قوى غضبية وشهوية كاذبة لا يعتمد عليها، ومن هنا قالوا: لا اعتماد على رؤيا الشاعر لتعوده الأكاذيب الباطلة والتخيلات الفاسدة.
وذهب بعض أصحاب المكاشفات وأرباب المشاهدات من الحكماء المتألهين والصوفية المنكرين لارتسام الصور في الخيال إلى أن الرؤيا مشاهدة النفس صورًا خيالية موجودة في عالم المثال الذي هو برزخ بين عالم المجردات اللطيفة المسمى عندهم بعالم الملكوت، وبين عالم الموجودات العينية الكثيفة المسمى بعالم الملك، وقالوا: فيه موجودات متشخصة مطابقة لما في الخارج من الجزئيات مثل لها قائمة بنفسها مناسبة لما في العالمين المذكورين، إما لعالم الملك فلأنها صور جسمانية شبحية، وإما لعالم الملكوت فلأنها معلقة غير متعلقة بمكان وجهة كالمجردات حتى أنه يرى صورًا مثالية لشخص واحد في مرايا متعددة بل في مواضع متكثرة كما يرى بعض الأولياء في زمان واحد في أماكن متعددة شرقية وغربية، ثم إن لتلك الصور مجالي مختلفة كالمرايا والماء الصافي، والقوى الجسمانية سيما الباطنة إذا انقطعت عن الاشتغال بالأمور الخارجية العائقة إذ بذلك يحصل لها زيادة مناسبة لذلك العالم كما للمتجردين عن العلائق البشرية، وإذا قويت تلك المناسبة كما للأنبياء عليهم السلام والأولياء الكمل قدس الله تعالى أسرارهم تظهر في القوى الظاهرة أيضًا، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاهد جبريل عليه السلام حين ما ينزل بالوحي والصحابة رضي الله تعالى عنهم حوله كانوا لا يشاهدونه.
هذا واستشكل قول المتكلمين: أن الرؤيا خيالات باطلة بأنه قد شهد الكتاب والسنة بصحتها بل لم يكن أحد من الناس إلا وقد جربها من نفسه تجربة توجب التصديق بها.
وأجيب بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكًا بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكًا بالسمع سمعًا باطل فلا ينافي كونها أمارة لبعض الأشياء.
وذكر حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: «من رآني في المنام فقد رآني» الحديث أنه ليس المراد بقوله عليه الصلاة والسلام فقد رآني رؤية الجسم بل رؤية المثال الذي صار آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه إليه، ثم ذكر أن النفس غير المثال المتخيل، فالشكل المرئي ليس روحه صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل مثاله على التحقيق، وكذا رؤيته سبحانه نومًا فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة لكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره وهو آلة حقًا في كونه واسطة في التعريف، فقول الرائي: رأيت الله تعالى نومًا لا يعني به أنه رأى ذاته تعالى.
وقال أيضًا: من رآه صلى الله عليه وسلم منامًا لم يرد رؤيته حقيقة بشخصه المودع روضة المدينة بل رؤية مثاله وهو مثال روحه المقدسة عليه الصلاة والسلام.
قيل: ومن هنا يعلم جواب آخر للأشكال وهو أن مرادهم أن ما يرى في المنام ليس له حقيقة ثابتة في نفس الأمر كما أن المرئي في اليقظة كذلك بل هو مثال متخيل يظهره الله تعالى للنفس في المنام كما يظهر لها الأمور الغيبية بعد الموت والنوم والموت أخوان، ووصف ما ذكر بالباطل لعله من قبيل وصف العالم به في قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وأنت تعلم أن ما ذكره حجة الإسلام ليس مما اتفق عليه علماؤه فقد ذهب جمع إلى أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة وبغيرها إدراك للمثال، على أن كلام المتكلمين ظاهر المخالفة للكتاب والسنة ولا يكاد يسلم تأويله عن شيء فتأمل.
ولعل النوبة تقضي إلى ذكر زيادة كلام في هذا المقام.
وبالجملة إنكار الرؤيا على الإطلاق ليس في محله كيف وقد جاء في مدحها ما جاء.
ففي صحيح مسلم أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها مسلم أو ترى له.
وجاء في أكثر الروايات أنها جزء من ست وأربعين.
ووجه ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام عمل بها ستة أشهر في مبدأ الوحي وقد استقام ينزل عليه الوحي ثلاثًا وعشرين سنة، ولا يتأتى هذا على رواية خمس وأربعين، وكذا على رواية سبعين جزأً؛ أو رواية ست وسبعين وهي ضعيفة ورواية ست وعشرين وقد ذكرها ابن عبد البر ورواية النووي من أربعة وعشرين والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وإذ يريكموهم} عطف على {إذ يريكهم الله} [الأنفال: 43] وهذه رؤيةُ بَصَر أراها الله الفريقين على خلاف ما في نفس الأمر، فكانت خطأ من الفريقين، ولم يُرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عديت رؤيا المنام الصادقة إلى ضمير النبي، في قوله: {إذ يريكهم الله} [الأنفال: 43] وجُعلت الرؤية البصرية الخاطئة مسندة إلى ضمائر الجَمعين، وظاهر الجمع يعمّ النبي صلى الله عليه وسلم فيُخصّ من العموم.
أرَى الله المسلمين أنّ المشركين قليلون، وأرى المشركين أنّ المسلمين قليلون.
خَيل الله لكلا الفريقين قلّة الفريق الآخر، بإلقاء ذلك التخيّل في نفوسهم، وجعل الغاية من تينك الرؤيتَين نصر المسلمين، وهذا من بديع صنع الله تعالى إذ جعل للشيء الواحد أثرين مختلفين، وجعل للأثرين المختلفين أثرًا متّحدًا، فكان تخيّل المسلمين قلّة المشركين مقويًّا لقلوبهم، وزائدًا لشجاعتهم، ومزيلًا للرعب عنهم، فعظم بذلك بأسهم عند اللقاء، لأنّهم ما كان ليفلّ من بأسهم إلاّ شعورهم بأنّهم أضعف من أعدائهم عَددًا وعُددًا، فلمّا أزيل ذلك عنهم، بتخييلهم قلّة عدوّهم، خلصت أسباب شدّتهم ممّا يوهنها.
وكان تخيّل المشركين قلّة المسلمين، أي كونَهم أقلّ ممّا هم عليه في نفس الأمر، بَرْدًا على غليان قلوبهم من الغيظ، وغارًّا إياهم بأنّهم سينالون التغلّب عليهم بأدنى قتال، فكان صارفًا إيّاهم عن التأهّب لقتال المسلمين، حتّى فاجأهم جيش المسلمين، فكانت الدائرةُ على المشركين، فنتج عن تخيّل القلّتين انتصار المسلمين.
وإنّما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطًا عزيمتهم، كما كان تخيّل المشركين قلّة المسلمين مثبطًا عزيمتهم، لأنّ المسلمين كانت قلوبهم مفعمة حنقًا على المشركين، وإيمانًا بفساد شركهم، وامتثالًا أمرَ الله بقتالهم، فما كان بينهم وبين صبّ بأسهم على المشركين إلاّ صرف ما يثبط عزائمهم.
فأمّا المشركون، فكانوا مزدهين بعَدائهم وعنادهم، وكانوا لا يرون المسلمين على شيء، فهم يحسبون أنّ أدنى جولة تجول بينهم يقبضون فيها على المسلمين قبضًا، فلذلك لا يعبئون بالتأهّب لهم، فكان تخييل ما يزيدهم تهاونًا بالمسلمين يزيد تواكلهم وإهمال إجماع أمرهم.
قال أهل السير: كان المسلمون يحسبون عدد المشركين يتراوح بين السبعين والمائة وكانوا في نفس الأمر زهاء ألف، وكان المشركون يحسبون المسلمين قليلًا، فقد قال أبو جهل لقومه، وقد حَزر المسلمين: إنّما هم أكَلَةُ جَزُور، أي قُرابةُ المائة، وكانوا في نفس الأمر ثلاثمائة وبضعة عشر.
وهذا التخيل قد يحصل من انعكاس الأشعّة واختلاف الظِّلال، باعتبار مواقع الرائين من ارتفاع المواقع وانخفاضها، واختلاف أوقات الرؤية على حسب ارتفاع الشمس، وموقع الرائين من مواجهتها أو استدبارها، وبعض ذلك يحصل عند حدوث الآل والسراب، أو عند حدوث ضباب أو نحو ذلك، وإلقاء الله الخيال في نفوس الفريقين أعظم من تلك الأسباب.
وهذه الرؤية قد مضت بقرينة قوله: {إذ التقيتم} فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة العجيبة لهاته الإراءة، كما تقدّم في قوله تعالى: {إذ يريكهم الله في منامك قليلًا} [الأنفال: 43].
و{إذ التقيتم} ظرف ل {يريكموهم} وقوله: {في أعينكم} تقييد للإراءة بأنّها في الأعين، لا غير، وليس المرئيّ كذلك في نفس الأمر، ويُعلم ذلك من تقييد الإراءة بأنّها في الأعين، لأنّه لو لم يكن لمقصد لكان مستغنى عنه، مع ما فيه من الدلالة على أنّ الإراءة بصرية لا حُلمية كقوله في الآية الأخرى: {ترونهم مثليهم رأي العين} [آل عمران: 13].
والالتقاء افتعال من اللقاء، وصيغة الافتعال فيه دالّة على المبالغة.
واللقاء والالتقاء في الأصل الحضور لدى الغير، من صديق أو عدوّ، وفي خير أو شرّ، وقد كثر إطلاقه على الحضور مع الأعداء في الحرب، وقد تقدّم عند قوله تعالى في هذه السورة: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا} [الأنفال: 15] الآية.
{ويقللكم} يجعلكم قليلًا، لأنّ مادة التفعيل تدلّ على الجَعل، فإذا لم يكن الجعل متعَلّقًا بذات المفعول، تعيّن أنّه متعلّق بالإخبار عنه، كما ورد في الحديث في يوم الجمعة: «وفيه ساعة»، قال الراوي: يقلّلها؛ أو متعلق بالإراءة كما هنا، وذلك هو الذي اقتضى زيادة قوله: {في أعينهم} ليُعلم أنّ التقليل ليس بالنقص من عدد المسلمين في نفس الأمر.
وقوله: {ليقضي الله أمرًا كان مفعولا} هو نظير قوله: {ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا} [الأنفال: 42] المتقدم أعيد هنا لأنّه علّة إراءة كلا الفريقين الفريق الآخر قليلًا، وأما السابق فهو علّة لتلاقي الفريقين في مكان واحد في وقت واحد.
ثم إنّ المشركين لما يرزوا لقتال المسلمين ظهر لهم كثرة المسلمين فبُهتوا، وكغان ذلك بعد المناجزة، فكان ملقيًا الرعب في قلوبهم، وذلك ما حكاه في سورة [آل عمران: 13] قوله: {ترونهم مثليهم رأي العين}.
وخولف الأسلوب في حكاية إراءة المشركين، وحكاية إراءة المسلمين، لأنّ المشركين كانوا عددًا كثيرًا فناسب أن يحكي تقليلهم بإراءتهم قليلًا، المُؤذنة بأنّهم ليسوا بالقليل.
وأمّا المسلمون فكانوا عددًا قليلًا بالنسبة لعدوّهم، فكان المناسب لتِقليلهم: أن يعبّر عنه بأنّه تقليل المؤذن بأنّه زيادة في قلّتهم.
وجملة: {وإلى اللَّه ترجع الأمور} تذييل معطوف على ما قبله عطفًا اعتراضيًا، وهو اعتراض في آخر الكلام، وهذا العطف يسمّى: عطفًا اعتراضيًّا، لأنّه عطف صوريٌّ ليست فيه مشاركة في الحكم، وتسمّى الواو اعتراضية.
والتعريف في قوله: {الأمور} للاستغراق، أي جميع الأشياء.
والرجوع هنا مستعمل في الأول وانتهاء الشيء، والمراد رجوع أسبابها، أي إيجَادُها، فإنّ الأسباب قد تلوح جارية بتصرّف العباد وتأثير الحوادث، ولكن الأسباب العالية، وهي الأسباب التي تتصاعد إليها الأسبابُ المعتادة، لا يتصرّف فيها إلاّ الله وهو مؤثّرها وموجدها.
على أنّ جميع الأسباب، عالِيها وقريبِها، متأثر بما أودع الله فيها من القوى والنواميس والطبائِع، فرجوع الجميع إليه، ولكنّه رجوع متفاوت على حسب جريه على النظام المعتاد، وعدم جريه، فإيجاد الأشياء قد يلوح حصوله بفعل بعض الحوادث والعباد، وهو عند التأمّل الحقِّ راجع إلى إيجاد الله تعالى خالق كلّ صانع.
والذوات وأحوالُها كلّها من الأمور، ومآلها كلُّه رجوع، فهذا ليس رجوع ذوات ولكنه رجوع تصرّف، كالذي في قوله: {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156].
والمعنى: ولا عجب في ما كوّنه الله من رؤية الجيشين على خلاف حالهما في نفس الأمر، فإنّ الإراءة المعتادة ترجع إلى ما وضعه الله من الأسباب المعتادة، والإراءة غير المعتادة راجعة إلى أسباب يضعها الله عند إرادته.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {ترجع} بضمّ التاء وفتح الجيم أي يَرجعها، راجع إلى الله، والذي يرجعها هو الله فهو يرجعها إليه.
وقرأ البقية {تَرجع} بفتح التاء وكسر الجيم أي: ترجع بنفسها إلى الله، ورجوعها هو برجوع أسبابها. اهـ.